" كريستينا
" سائحة من بلاد الشطآن الباردة ،
عام 2007 قررت استطلاع الصحراء الليبية في
رحلة سياحية ، وعادت الان لتدون بشوق ذكرى انطباعات ارتسمت بخاطرها ، مشفوعة بالصور
:
لم اكن اعرف ان الصحراء مذهلة الى هذا الحد ،
السفر والرحلة الى هناك كانت بالنسبة لي مجرد استطلاع لعالم مجهول ، لقد فوجئت حقا
بروعة المشهد ، تنوع تجلياته ، مناظر غنية
تبعث الدهشة ، وتشحذ الدهن لإعادة التأمل والتفكير في الكون والحياة ، كثبان رملية
شاهقة وممتدة ، وسؤال كيف يمكن عبورها ، براح صحراوي شاسع ، ولوحات زاخرة بمختلف
الوان الطيف ، وما هذا اللون الاصفر الذهبي الذي يوشح تلك الكثبان اوآن الغروب ،
يا للعجب ، لم اكن اتصور هذا من قبل .
ما اجمل اكتشاف المجهول ، وبطبيعة
الحال، انا لست متخصصة بمعرفة الصحراء، مرشدنا السياحي جدب انتباهنا الى ليبيا، ومع
سائقين من ذوي الخبرة يعرفون ما كانوا يفعلون . يتمتعون بمهارة القيادة عبر الصحراء
وسط تلال وكثبان عملاقة شديدة الانحدار ، سهوب مسطحة يكسوها الحصى ، ومع ذلك اتضح لي
كم هي أكثر صعوبة مما كنت أتوقع هذا . خالجني شعور بالموت يحوط بنا ، وانتابني
القلق والملل لولا متعة المغامرة . لكأننا نجوب بحر من الكثبان الرملية .
بعد ساعات
طويلة من السفر ، بدأ المشهد يأخذ في التغير ببطء . صحراء مقفرة بلون السواد تتكشف
امامنا ، حجارة باحجام اكبر تغطي وجهها . ازعجت عبورنا وجعلت القيادة مرهقة ، لا توجد طرق
ومعابر محددة سلفا ، مسارات متعددة غامضة . لم نجد تفسيرا لكيفية تطون بطحاء حجرية
سوداء ، دليلنا يقدم تفسير منطقي يشير الى عوامل الاكسدة الناجمة عن حرارة الشمس ،
وحركة الرياح ، وكان من الطريف أنه عندما رفع واحد من تلك الحجارة،
تبين انها تتوسد قاع رملي . بعد بضع ساعات من السفر ، توقفنا مرة أخرى ببطحاء الهضبة
الداكنة السواد ، كان كل شيء من حولنا مروع ورائع حقا . التفت من حولى بزاوية 360 درجة
، وبدأ كل ما يمكن أن نرى اشبه بسطح القمر، انتداد الافق الى ما لانهاية من كل
الانحاء ، السماء الزرقاء الصافية ، صورة تستدعي التقاط الأنفاس.
وجدت نفسي في هذا المشهد المثير
لأول مرة في حياتي ، شعورا باللانهاية والوحدة ، لا احد يعبر المكان سوانا . وبطريقة
أو أخرى اختلطت المشاعر بالرهبة والخوف ، وارتفع مستوى الأدرينالين يحمل التساؤلات
. ماذا لو حدث شيء لواحد منا ؟ من سيأتي لإنقاذنا في اللامكان المهجور . نظرت إلى الوراء
.. شعرت وكأنني امام معجزة يصعب وصفها .. ثم فجأة تأتي اطلت علينا نقوش صخرية تظهر
لوحات البشر والحيوانات ، الفيلة الزرافات. من الصعب تصور أن هذا المكان كان ذات
يوم ارضي تغطيها السافانا الخصبة .
وصلنا أخيرا ، ويا لسذاجتي ،
كم كنت اعتقد أن ان الصحراء ليست سوى ارض يباب ، ويا للمتعة والدهشة التي لا تنتهي
. انها بحر من الكثبان الرملية .. عبورها اشبه
بامتطاء مركبة مسلية ، او ابحار بسفينة
صغيرة وسط بحر متلاطم الامواج .
يسرني أن مسعود ، سائق وخبير
من اهل المكان ، ومن الواضح انه يعرف جيدا ما يقوم به ، وما ينبغي عليه فعلة في
الاوقات العصيبة ، لهذا لم نتعرض لحادث خطير طوال الرحلة ، وتلك فيما اعتقد هي
الاخرى معجزة . كان يتحدى بصعوبة انزلاق السيارة في الاتجاه الذي لا يريده اعالي
الكثيبان الشاهقة ، أحيانا لتوجيه السيارة تصل هذه الكثبان الشاهقة ، وغالبا، تميل
السيارة بشكل خطير نحو جانب واحد لدرجة الجنوح وفقدان السيطرة ، لكنه كان جديرا بمعرفة
طرق الخلاص من ذلك التهديد .
عند حلول الظلام ، نصبنا
مخيمنا ، واوقد السائقين نار الحطب لاعداد الشاي . كانوا يتغنون الأغاني العربية ،
واجدني رقصت على انغامهم لمرات . وعلى الرغم من يحظره القانون في ذلك الوقت في ليبيا
، في المساء لديهم بعض الأحيان رشفة من زجاجة المياه البلاستيكية ، وكنا على دراية
ونحن ننوي السفر الى ليبيا ، وهي لا تزال تحت حكم القذافي ، ان مجموعتنا ستعبر برفقة
رجال شرطة في ملابس مدنية . لم يكن من الصعب تخمين من هم من بين مجموعة المرافقين
. كان هناك ليبي واحد فقط لم يكن يقود السيارة
. ولم يتأقلم مع اجواء الرحلة بشكل جيد . وقال دليلنا لي فيما بعد أن جميع رجال
الشرطة من الشمال مضطرون لقضاء بعض الوقت في الصحراء .
حتى الآن المكان الأكثر إثارة للإعجاب حيث أنشأنا
المخيم في جبال أكاكوس . معسكرنا في واد رملي تحيط بنا أبراج غريبة من الحجر الرملي
، بقايا من الجبال التي تحولت إلى صخور كبيرة ، تطفو على الرمال وكأنها أسنان ضخمة
.
ومرة أخرى وجدت نفسي امام مشهد مثير ، وكأنني اعيش على كوكب اخر ،
ومكان لم ارى مثيلا له من قبل . وكانت عدستي رفيقتي لتسجيل هذا العالم المثير .. وكم
هو المشهد اكثر سحرا لحظة غروب وشروق الشمس . يا للروعة . . جلست على قمة صخرة ، زملائي لا يزالوا نائمين ، السيارات متوقفة ، أدركت شيئا
ذو وقع خاص ، الصمت المطبق على المكان .. انعدام الاصوات مطلقا .. لا سيارات ، ولا
انس يتحدثون ، لا رياح تهز الأوراق ، لا طيور.. الصمت التام فقط . كان شيئا لم
يسبق لي ان استمتعت بعذوبته .
انتقلنا فيما بعد لحضور مهرجان الصحراء في واحة
غات ، وهي بلدة حدودية صغيرة ، بنيت منازلها بالكامل من الطين الأصفر. . مهرجان محلي يبعث مزاج جيد وانت تشاهد
راكبي الجمال يتسابقون ، والساكنة يحتفلون . بل وطلب مني ان اشارك بمقابلة تلفزيونية
عبر الفضائية الليبية .
عدنا ادرجنا نحو الشمال حيث
البحيرات المائية وسط كثبان رملية جارفة ، مشهد اخر يثير الغرابة والعجب ، وكانت
فرصة شيقة للاستمتاع بالتزحلق على سفوح الكثبان ، والسباحة بالمياه التي تكتنزها
الصحراء اليباب على سطحها منذ ملايين السنين . كان حمام منعش حقا ، وكم كان
التزحلق على الرمال اكثر بهجة منه على سفوح جبال الالب الثلجية . الرمال لزجة
ومرنة تؤمن وقوعك بلطف ، انها مرة واحدة في العمر ، مغامرة مثيرة عبر الصحراء ، وامر
يستحق العناء .
العودة إلى طرابلس
تجربة مجنونة ومثيرة ، وبعد فترة وجيزة ، عدنا إلى
طرابلس ، الى الحضارة مرة أخرى.
أحيانا اجدني اليوم وبعد مرور سنوات على تلك الرحلة الشيقة ، أفكر في
سائقنا مسعود وغيره من الليبيين الذين التقيت بهم هناك ، وأتساءل كيف هم الان ،
وكيف مرت ايامهم خلال الربيع العربي . ومن منهم اغتالته الحرب الضروس ، حتى الآن ،
وبعد سنوات ، لا تزال الفوضى تسود المكان ، آمل أن تصبح ليبيا آمنة ، وان يكونوا
كل الذين عرفتهم لا يزالوا حياء ، وبخير ،
اتألم لاجلهم . ولاجل ذلك المكان الذي نحث
بذاكرتي لا كما أي مكان اخر زرته طوال حياتي ، الصحراء الليبية الشاسعة المدهشة ، هي بالتأكيد واحدة من أكثر المناطق الرائعة على
ظهر الكوكب ، واستكشافها يبعث في النفس مشاعر وخلجات لم يسبق لها ان تولدت فيها من
قبل .
ترجمة : عين على فزان
ترجمة : عين على فزان